لم يعد من المذهل أن نستيقظ كل يوم ونجد أمامنا ظاهرة غريبة شبت في جسد مجتمعنا واستشرت فيه كالنار في الهشيم لما نشهده من غزوٍ ثقافي وأخلاقي بعيد كل البعد عن قيمنا وبيئتنا الإسلامية، وبالجانب الآخر الضغوط الحياتية التي صرفت الناس عن أهم لبنات المجتمع - وهي الأبناء والأسرة. وما روته محاضر الشرطة أخيراً من نسبٍ في عدد حالات الإنتحار في أوساط ما دون الثالثة عشرة من العمر يستدعي وقفة ومراجعة وإعادة ترتيب كل ما تبعثر من قيم... «الرأي العام» وقفت على ظاهرة انتحار الصغار وجرائم القتل التي يرتكبها الصغار ودوافعها.
---------
إنتحار الصغار
الضغوط المادية.. والإحساس بالعجز ربما يصيبا الشخص بالإكتئاب ويقوداه الى الإنتحار، ولكن أن يشعر بهما طفل في السنة الرابعة فهذا أمر في غاية الخطورة.. وفي مجتمع مثل المجتمع السوداني الذي عُرف بأفاضل القيم والتربية الدينية والتكافل الإجتماعي، فضلاً عن عدم إقحام الأطفال في المشاكل الأسرية إذا كانت مادية أو غير ذلك.. الطفل «موسى عوض الكريم» طردته إدارة المدرسة لعدم سداده للرسوم فعاد الى البيت، فسألته والدته عن سبب عودته من المدرسة فأفادها بأمر طرده بسبب الرسوم، إلا أنها طلبت منه العودة مرة أخرى الى المدرسة، فرد على والدته بأنه سيريحهم من دفع الرسوم نهائياً وأنزوى الى غرفة قصية في البيت وشنق نفسه بحبل ونفذ ما وعد به. ويرجع علماء النفس بأن سبب الانتحار غالباً يعود الى الإكتئاب الذي تصل نسبته عند الأطفال (31%)، فيما يقول عالم النفس التونسي «عبد الوهاب محجوب» بأن تزايد حالات الإنتحار عند الأطفال تنجم غالباً من التناقض الذي يشعر به الطفل بين القيم الإسلامية وواقع تنتشر فيه القيم المادية وإباحة العنف اللفظي والمادي وتراجع تأثير قداسة الأب والمعلم.
قبل إنطلاق امتحان شهادة الأساس للعام 8002م اهتز المجتمع بوقوع جريمة نكراء نفذتها طالبة في السنة النهائية بالأساس، حيث استدرجت ابنة خالتها وصديقتها التي تدرس في نفس الفصل الى منزلها ووضعت لها سماً «صبغة شعر» في كوب العصير نقلت على إثره الى المستشفى لتلفظ أنفاسها الأخيرة، وبالعودة الى تفاصيل الجريمة أُكتشف بأن دافع الجريمة الغيرة وتفوق المجنى عليها في الدراسة!!
وفي تصريح صحافي فجّر اللواء «عطا عبد الحميد» مدير دائرة الجنايات بولاية الخرطوم مفاجأة مذهلة عن تزايد حالات الإنتحار في أوساط الطالبات بصبغة الشعر تصل ما بين (4-5) حالات يومياً بسبب رسوبهن في الامتحانات.
مؤشر خطير
تزايد حالات الإنتحار في أوساط الأطفال ظاهرة لم يشهدها المجتمع السوداني من قبل لإحتكام أفراده بالعادات والتقاليد.. والتربية الدينية التي تشتهر بها الأسر السودانية.. إلا أن تسرب بعض الثقافات الغريبة والضغوط المعيشية وعدم وجود الرقابة اللصيقة، كل هذه المسببات أدت الى تنامي حالات الإنتحار وارتكاب الأطفال لجرائم القتل المنظمة.
ولمعرفة رأي علم النفس الاجتماعي وطرق الحد من استشرائها التقيت بالدكتور «أسامة الجيلي» أستاذ علم النفس الاجتماعي الذي ابتدر حديثه قائلاً: الإنتحار كظاهرة متى وجدت تعتبر مؤشراً خطيراً ودلالة على عدم تمسك هذا المجتمع بقيمه وللصراع والضغوط التي يعيش فيها، وإذا رجعنا وتمعنا جيداً نجد أن هناك انتقاص الاهتمام داخل الأسرة مباشرة وهنا أنا اقصد - الاب والأم - المسؤولين مسؤولية في غرس القيم السامية وإذا لم يشعرا بهذه المسؤولية يتقاطع النسق الاجتماعي إذا كان سلوك الإنتحار مرتبطاً مع المواقف الحياتية كما أن هناك بعض الدوافع كالأمراض النفسية مثل الإكتئاب خاصة إذا وصل مرحلة معينة- في مرحلة ما يفكر المريض في الانتحار، ولكنه لا ينفذ الفكرة، وإذا تفاقم يفكر وينفذ.
وحالات الانتحار التي وقعت أخيراً في أوساط الطالبات- اعتقد بأن الشخص في هذه السن لا يصل الى مرحلة الصراعات وليست له مسؤولية في الحياة، والإنسان عندما يصل سناً معينة إذا فشل يصاب بالفشل، ومن ثم الفشل القاتل، وهذا إذا اكتشف مبكراً يحتاج الى وقفة ومؤازرة.
وفي تقديري أن الاشخاص الذين أقدموا على الانتحار يتحمل مسؤوليتهم المجتمع، وأتساءل: «ماذا يقدم المجتمع للفرد؟.. فباستطاعة المجتمع إعادة الأمل الى الفرد لممارسة حياته الطبيعية ويدفعه بعيداً من دائرة التفكير في الانتحار».
حب الذات
ويواصل د. أسامة في رده على حالة الطالبة التي قتلت ابنة خالتها بسبب تفوقها في الدراسة قائلاً: هناك بعض الأسر لا تستطيع التعامل الصحي مع أطفالها.. مثل غرس بعض الأسر في أبنائها الأنانية وحب الذات.. وينعكس هذا الى سلوك إجرامي يبحث فيه الطفل التفوق على الآخرين بكل السبل حتى إذا وصل مرحلة القتل مثلما حدث لطالبة الأساس.. وهنا أريد أن أوجه كل الأسر بغرس حب الآخرين ونكران الذات عند أطفالها وعدم إشعارهم بالعلوية واعتبار الآخرين في الطبقة الدنيا.
من المسؤول؟
? هذه ظاهرة حديثة - وفاجأت المجتمع بهجمة مباغتة الى ماذا تعزي السبب؟
- يقول د. أسامة: المسؤولية في المقام الأول في الفاقد التربوي وأنا اعتبر أن المنهج الحالي في المدارس يفتقر تماماً الى مواد القيم الدينية وبعيد عن التربية الإسلامية- وإذا لم يراجع هذا المنهج في سيصبح الأمر خطيراً.. وهناك أىضاً المسؤولية الأسرية والمؤسسات التربوية، فمثلاً ما يحدث الآن شيء غير مقبول. مثلاً إذا ضرب أحد المعلمين تلميذه فإن ولي امره يذهب للمدرسة ويعاتب المعلم على عقابه للتلميذ دون ان يعرف سبب العقاب، وهذا يخلق نوعاً من افتقاد الثقة بين الأسرة والمعلم ويذهب هيبة المعلم، وأنا هنا لا أقصر المسؤولية على الأسرة والمنهج فقط بل على الدولة- الدولة يجب عليها ان تضع برنامجاً تدريبياً خاصاً فيما يتعلق بالجوانب التربوية والنفسية وكيفية تعامل المعلمين مع الأطفال - وإذا حدث ما قلته فسوف تعود العافية الى جسد المجتمع السوداني.
نقلا عن صحيفه الراي العام