الرجل العادي لا ينظر الى الأشياء إلا من أجل التصرف فيها والاستفادة منها، في حين الفنان لا ينظر الى الأشياء إلا من أجل إحالتها الى موضوع فني أو من أجل العمل على تصويرها، والواقع إننا قلما ننظر الى (العين) مثلاً لذاتها بل نحن نراها من حيث هي (نظر) لا من حيث هي (عين)، والدليل على ذلك إننا نجهل تماماً لون حدقة عين أقرب المقربين إلينا، وأما بالنسبة الى طبيب العيون فإن العين (عين) وليست مجرد (نظرة)، ولكن (العين) في نظر الفنان هي أيضاً إمارة ودلالة ولهذا فإنه يحيلها الى معنى وتعبير، والفنان يعرف أن المرأة التي يرسمها ليست مجرد شكل ينقله على القماش وكأنما هي مجرد مجموعة من الملامح والحركات والسكنات، وإنما هي أولاً وقبل كل شئ (تعبير فردي) عاطفي.. ولا غرو فإننا لا نتذكر الوجه الذي نعرفه لا بملامحه وقسماته وإنما بتعبيره ومعناه.. أي بتلك الدلالة النفسية التي نخلعها عليه وهذا هو السبب في أن اللوحات التي رسمها كبار الفنانين لبعض الأشخاص لم تكن مجرد صور لنوع من (الطبيعة الصامتة) وإنما كانت أعمالاً فنية تكشف لنا عن مدلولات أعمق مما تبوح به القسمات.
علاقتنا بأي كائن حي إنما تبدأ حينما ندرك منه أكثر مما يبوح به شكله.
يقرر كثيرون أن علاقة الفنان بالموضوع الذي يرسمه لا تبدأ إلا حين يكف عن الخضوع لنموذجه كي يعمد الى التحكم فيه والسيطرة عليه - وليس هناك من مظهر لتحكم الفنان في نموذجه إلا باستحالة ذلك (النموذج) الى دلالة تعبيرية في صميم (العمل الفني).. فإذا نجح الفنان في أن يقتطع من هذا العالم (موضوعاً) يعيد تكوينه لحسابه الخاص معبراً عنه بما لدينا من قدرة على إبراز المعاني استحال هذا الموضوع الى حقيقة ناطقة ذات دلالة. ولديه معنى العالم سوى ذلك التعبير الفني الذي تفيض به لوحات الفنانين ونقوشهم وشتى مظاهر إبداعهم حين تجئ هذه كلها فتخلع على (الواقع) بعداً (إنسانياً) بمعنى الكلمة.