الطريق المتعرج نحو السلام في الجنوب:
تأملات في رحلة لم تكتمل
** د. عبد الوهاب الافندي
- القدس العربي اللندنية
07/10/2008
نعود الآن لاستئناف رحلة التقصي عن ما نراه أساس الخلل في الأوضاع القائمة (و'قيامها' مسألة فيها نظر) في السودان ونظرتنا إلى كيفية إصلاح الأمور. وقد كان في ما سردنا حتى الآن ما يدعو لليأس والقنوط. فإذا أصبح من المتعثر مجرد عقد اجتماع لمناقشة أسباب الخلل، فكيف يمكن حتى البدء في طريق الإصلاح؟
ولكننا مع ذلك قاومنا اليأس، ورضينا بأضعف الإيمان، وهو تركيز جهودنا على وقف نزيف الحرب في الجنوب. وكنت قد ذكرت في بداية هذه التأملات عن مبادرتنا التي لم يحالفها التوفيق لإطلاق مفاوضات سلام في مطلع عام 1992، وما أعقبها من عقد الجولة الأولى لمفاوضات أبوجا في أيار (مايو) من ذلك العام. وقد كنت من شهود تلك المفاوضات والجولات التالية، وعايشت الإحباط التي واكب الفشل في كل جولة.
وقد كانت المشكلة الأساسية هي إقناع الطرفين بجدوى الحوار والاتفاق، لأن هذه القناعة كانت غائبة. وقد كان مدعاة لكثير من الريبة عندي قبول العقيد جون قرنق الحضور للمفاوضات في أبوجا في أيار (مايو) 1992 بعد أقل من شهرين من رفضه لمبادرتنا بدعوى أن الوقت غير مناسب لبدء الحوار.
وكان لقرنق سبب إضافي لرفض المشاركة في أبوجا بسبب وجود الفصيل المنشق بقيادة رياك مشار هناك، وهو ما كان يرفضه، حتى أن المفاوضات تأجلت من تشرين الأول (أكتوبر) 1991 إلى أيار (مايو) 1992 بسبب الخلاف على حضور المنشقين، حتى أجبرته ضغوط مكثفة من نيجيريا وغيرها على الحضور مكرهاً.
ولكن الطرف الحكومي لم يكن وقتها أكثر حماساً للاتفاق، خاصة وأن الحكومة كانت قد بدأت في تلك الفترة حملتها العسكرية التي سميت بـ'صيف العبور'، وبدأت مواقع الجيش الشعبي تتساقط تباعاً بدءاً من فشلا، مروراً بكبويتا التي سقطت أثناء المفاوضات، رغم أنها كانت من أكثر مواقع الجيش الشعبي حصانة. وقد كادت زلة لسان من د. علي الحاج أن تؤدي إلى مشكلة حين قال للحضور في الاجتماع اليومي الذي كان يعقد كل مساء في جناح رئيس الوفد الحكومي العقيد محمد الأمين الخليفة: 'ليكن معلوماً لكم إننا لم نحضر إلى هنا لعقد اتفاق مع قرنق'. فأدى هذا إلى ثورة من بعض الحضور وعلى رأسهم د. حسين أبوصالح وزير الخارجية الذي استغرب أن يكون هذا الموقف ولم يخطر به بقية أعضاء الوفد.
وقد حاول د. علي الحاج إصلاح الأمر بإعادة تفسير مقولته بأنه يعني أنه غير متفائل بعقد اتفاق بسبب تعنت فصيل قرنق.
ولعل هذه مناسبة لكي أشيد فيها بذلك الحشد الطيب من الإخوة أعضاء مجموعة التفاوض - ومنهم من رحل إلى دار البقاء رحمهم الله جميعاً- وما أظهروه من تفان ومثابرة لإنجاز ما يمكن إنجازه في ظروف صعبة، حيث كانوا يواصلون الليل بالنهار بلا كلل ولا ملل. وكانوا مع ذلك يواجهون الضغوط من كل جانب. وقد شهدت الأخ علي الحاج وهو يقضي ساعات طويلة في محادثات هاتفية مع الخرطوم وهو يدافع عن نفسه عن اتهامات التهاون وتقديم التنازلات المجانية، حتى سمعته مرة يقول لمحدثه: 'هل تعتقدون أننا لا ننوي العودة إلى الخرطوم؟'
جولة أبوجا الأولى لم تشهد مفاوضات حقيقية، لأن معظم الوقت انقضى في محاولات وراء الكواليس لتوحيد فصيلي التمرد كانت تقودها الكنيسة اللوثرية الألمانية. وقد تكللت تلك المفاوضات بنجاح كانت نتيجته الأولى تقويض فرص نجاح المفاوضات. فمن جهة أثار القرار غضب العقيد قرنق الذي لم يستشر فيه، مما أدى إلى انشقاق وليم نون رئيس وفده للتفاوض ورئيس أركان الجيش الشعبي. ومن جهة أخرى لم يكن هناك توافق بين الفصيلين سوى على طلب تقرير المصير، مما استدعى أن يطلب الوفدان رفع جلسات المفاوضات حتى يتم التوافق على موقف تفاوضي جديد.
وقد كان الوفد الحكومي قد اتخذ الاحتياط ـ بمبادرة من د. علي الحاج- لاستباق هذه الخطوة التوافقية بين الفصيلين، حيث كان رأيه ـ بعد أن علمنا بجهود التوحيد- أن الأمر الوحيد الذي سيتفق عليه الفصيلان هو طلب الانفصال. وعليه فإن الوفد الحكومي طلب لقاء مع الرئيس النيجيري وراعي المفاوضات ابراهيم بابنجيدا خرج في نهايته بالتزام علني ورسمي من نيجيريا بوحدة السودان، وهو ما أغلق الطريق على أي مطالب انفصالية في إطار تلك المفاوضات.
حظ جولة أيار (مايو) 1993 كان أفضل في النجاح، لأنها كانت قد سبقت بأول لقاء مباشر بين العقيد قرنق ووفد حكومي برئاسة د. علي الحاج في كمبالا في شباط (فبراير) تحت رعاية الرئيس اليوغندي يوري موسفيني، إضافة إلى لقاءات إضافية عقدها الأخ علي عثمان محمد طه (الذي لم يكن له منصب رسمي وقتها) في بريطانيا مع بعض الشخصيات المقربة من قرنق، وتم خلالها تثبيت وقف إطلاق النار المتفق عليه في وقت سابق برعاية الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر. وخلال لقاء قرنق مع علي الحاج تم الاتفاق على أن تعقد مفاوضات تمهيدية تسبق المفاوضات الرسمية التي اتفق على أن تعقد في ايار (مايو).
وقد كان هناك انطباع وقتها بأن علي الحاج وعلي عثمان يتبنيان نهجين متنافسين، بحيث يفضل الأول اتفاقاً مع الفصائل المنشقة عن قرنق، بينما كان الثاني يرى أنه لا بديل عن الاتفاق مع فصيل قرنق. ولكن مثل كل هذه الانطباعات، فإن هذا التوصيف لم يكن دقيقاً، إذ أن التباين في المواقف لم يكن كبيراً، وكان الأمر يعتمد على الفرص المتاحة. وقد حاول علي عثمان أكثر من مرة عقد لقاء مع قرنق ولم يوفق. وفي إحدى المرات سافر إلى كينيا بناء على دعوة من الرئيس دانيال أراب موي للقاء قرنق، ولكن الأخير لم يحضر في الموعد. وقد اتضح فيما بعد أن السبب سوء تفاهم، حيث أن قرنق كان من المفترض أن يصل إلى نيروبي على متن طائرة خاصة أرسلها صاحب شركة 'لونرو تايني رولاند'، ولكن قرنق الذي كان وقتها على خلاف مع رولاند رفض أن يستقل الطائرة وسافر براً إلى نيروبي، مما أدى إلى وصوله متأخراً ثلاثة أيام عن الموعد.
في نيسان (أبريل) من عام 1993 وصلنا إلى أبوجا مع مجموعة صغيرة برئاسة علي الحاج تحت الانطباع بأننا كنا سنلتقي العقيد قرنق الذي كان موجوداً وقتها في العاصمة النيجيرية ونبدأ ما سمي بالمفاوضات التمهيدية. ولكنا فوجئنا بعد أول اجتماع رسمي مع الوسطاء النيجيريين برسالة من قرنق تقول إنه لن يلتقي بنا، وإنه لن يكون هناك اتصال بيننا وبينه إلا عن طريق النيجيريين. وقد أدى ذلك إلى رد فعل غاضب من أعضاء الوفد، إلا أننا قمنا بتهدئتهم، وقد انتحيت جانباً مع السفير ماثيانق وقمنا بكتابة رسالة مختصرة موجهة إلى قرنق بعد التشاور مع أعضاء الوفد. وقد كان فحوى الرسالة سؤالين حول اللقاءات التي عقدها علي عثمان مع أنصار قرنق في بريطانيا، وإذا كان قد أخطر بفحواها، وعما إذا كان يوافق على ما تم الاتفاق عليه خلالها. جاءنا الرد في المساء شفاهة: إنه لم يفوض أحداً لكي يتفاوض باسمه في بريطانيا ولا غيرها، وأنه لا علم له بما دار وبالتالي ليس هناك ما يوافق عليه.
غضب علي الحاج غضباً شديداً من هذه الإجابة المخيبة للآمال، ورأى أن يصدر الوفد بياناً شديد اللهجة يفضح فيه مواقف قرنق وتنصله من تعهداته. ولكن الأخ فضل السيد أبوقصيصة، رحمه الله، اعترض على هذا الاقتراح، قائلاً إن الشعب السوداني كان يعلق آمالاً كبيرة على هذه المفاوضات، وإن إصدار مثل هذا البيان سيحبط هذه الآمال.
وهكذا انصرفنا في صمت لنعود بعد شهر إلى المفاوضات التي بدأت واستمرت بنفس النهج المخيب للآمال، وذلك حتى بدأت مجموعة صغيرة من الوفدين تعقد لقاءات مغلقة مساء كل يوم بعد انتهاء جولة المفاوضات الرسمية. وقد كان يحضر هذه اللقاءات من الجانب الحكومي العقيد محمد الأمين خليفة رئيس الوفد ومعه د. علي الحاج ود. نافع علي نافع، ومن جانب الحركة رئيس وفدها القائد سلفا كير ومعه دينق ألور.
خلال هذه المفاوضات، تم إحراز تقدم ملحوظ في المواقف، حيث دخل الطرفان في نقاش صريح حول تقاسم السلطة. وقد قال لي أحد أعضاء وفد الحركة في حوار خاص بعد أن بدأت تتضح ملامح التوافق المرتقب: لماذا ضيعتم كل وقتنا حتى الآن في جدال عقيم حول سلطات المركز والإقليم؟ فلو قلت لي أنكم ستأخذون وزارة النفط فلن أدخل في جدال معك حول هل يتبع النفط للمركز والإقليم.
ولكن هذا التقدم الواعد سرعان ما تبخر بسببين. أولهما أن أحد الأطراف سرب خبر ملامح الاتفاق إلى المعارضة الشمالية ووجد طريقه للنشر في صحيفة 'الشرق الأوسط'. والثاني أن الوسطاء النيجيريين الذين لم يكن لهم علم بما يجري وراء الكواليس استبطأوا التقدم وخرجوا بفكرة مؤداها ضرورة عقد قمة رباعية لرؤساء نيجيريا والسودان ويوغندا وكينيا لمحاولة كسر جمود العملية التفاوضية. وعندما فشل هذا الاقتراح غضب وزير الداخلية النيجيري الذي كان يتولى رئاسة المفاوضات وقرر أن يفض جولة المفاوضات. وكان مما زاد غضب الوزير إنه عندما ذهب إلى الخرطوم لم يستقبله الرئيس، كما أنه علم أن الرد على الرسالة التي وجهها بابنجيدا إلى الرئيس البشير قد كتب من قبل الوفد في أبوجا نفسها.
مهما يكن فإن قرار فض الجولة أدى إلى نتيجة سلبية أخرى، حيث أن وفد الحركة أعد خطاباً عدوانياً شديد القبح، قام بقراءته رئيس الوفد سلفا كير في نهاية الجولة، مما خلق ردة فعل عنيفة وسط الوفد الحكومي. وكان رئيس جلسة المفاوضات على ما يبدو على علم بمحتوى الخطاب لأنه طلب من سلفا كير ألا يقرأه، إلا أن الأخير أصر على قراءته حتى يكون من ضمن المضابط الرسمية للمفاوضات. فقال له إن الخطاب يمكن أن يدرج ضمن المضابط بدون الحاجة إلى قراءته، ولكن وفد الحركة أصر على قراءته.
وعندما فرغ سلفا كير من قراءة خطابه ساد وجوم غاضب في الجانب الحكومي، ولم يرد أحد على سؤال رئيس الجلسة عن اقتراح لموعد اللقاء القادم، سوى شخص لعله الوزير عثمان عبدالقادر عبداللطيف قال: لا نريد لقاءاً آخر أبداً. وقد أثار الأمر استغراب النيجيريين، خاصة وأن الوفد الحكومي كان قبل هذه الجلسة يرجو الوسطاء أن يبقوا الجولة منعقدة، وإذا رفعت فيكون لبضعة أيام فقط حتى يذهب بعض أعضاء الوفد الحكومي إلى الخرطوم للتشاور. وعندما توجه بسؤاله إلى وفد الحركة رد سلفا كير قائلاً: إن أعضاء الوفد الحكومي هم إخوتنا الكبار، ونحن مستعدون للعودة في أي وقت يقترحونه.
ولا بد من أن ألاحظ هنا أن القائد سلفا كير كان طوال جولة المفاوضات آية في التهذيب وحسن الخلق، ولعل الخطاب الذي قرأه فرض عليه من بقية أعضاء الوفد، لأنه لا يشبه حديثه لا قبل ذلك ولا بعده.
مهما يكن فقد ضاعت الفرصة، رغم أن اجتماعاً عقد بين رئيسي الوفدين اتفق على معاودة التفاوض خلال شهر. ولكن الأحداث تسارعت في نيجيريا بعد إجبار بابنجيدا على الاستقالة، ولم يعد ممكناً بعد ذلك معاودة اللقاء في نيجيريا التي دخلت بدورها في مرحلة من الاضطراب الداخلي.
** كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن