مرّ كنسمة لطيفة في صباح بلا مشيعين تخون الحياة عشـّاقها ، دائماً ، وترميهم في شباكها ثم لا تني تتصادى في الهجرات خيالاً في الخيال ، قبل أن تلجمهم عند مفترق دروبها وترديهم قتلى الضجر والأشواق وسائر متطابقات الوحشة والحنين والحب الذي يدمي. حدث ذلك فعلياً مع العبقري الطيب صالح الذي هو آخر ثرواتنا القومية شديدة القداسة ، في بلدنا الجاف المتلاف مترامي الأطراف . (تذكرون أن الشاعر المعتزل التجاني سعيد صاحب أغنية قلت أرحل قال مرة إن الطيب صالح أهمّ للسودان من 7 آبار نفط!!)
ومنذ أن فتحنا أعيننا على الحياة ـ نحن الجيل الذي وُلد وعيه الأوّل مع انتفاضة أبريل ـ كانت روايات الطيب صالح هي التي تولــّـتنا بالرعاية المعرفية ، قبل أن تلوّث "الإنقاذ" السودان كله بكيمياء اللامعقول السلبي في رؤية العالم .
والموت ـ كما تعرفون ـ ليس تسجية الجسد في الأخدود الموشـّى ببياض الكفن الذي يهيل عليه الآخرون التراب ثم ينصرفون إلى أعمال الحياة ، بل الموت هو أن تــُقبر الروحُ في برزخ روحها من شدة اغترابها عما يحيط بها من عوالمٍ متصحرة من براعات الإنسان وأخلاقياته المثالية ، سواء أكان ذلك داخل أسوار الوطن ، أم كان خارجه في براحات أرض الله الواسعة .لذلك لن نستغرب حين نعلم أن الطيب صالح ، في هجراته المديدة وطول اغترابه ، لم يملك بيتاً في السودان ، وكان حين يزوره ينزل في فنادقه القليلة آنذاك . ذلك لأن غربة الطيب لم تكن في بعده في المنافي ؛ بل كانت في ما يحسه من سخف السياسة التي محقت السودانيين وغرّبتهم عن أنفسهم حتى وهم يقطنون جغرافيا البلد . وهنا تحضرني عبارة مصطفى سعيد بطل رواية العبقري الكبرى موسم الهجرة الى الشمال التي قال فيها : هذا البلد صار ضيقاً على ذهني .. فانتشر في الأصقاع حتى الوصول الى بلد الانكليز .
وساعة قال الطيب قولته المشهورة: "من أين جاء هؤلاء؟" وقال أيضا: "متى كانت الخرطوم مهبطا للديانات؟" ، وهي مقولات استنكارية وليست أسئلة، كشرت له حكومة الإنقاذ عن أنيابها ، حتى أن كاتباً متوسطاً كتب في جريدة "النظام" في مطلع التسعينات " موسم الهجرة الى الحضيض" ، في محاولة تخريبية للأذهان بعد أن منعت الحكومة تدريس الرواية في الجامعات ، ومنعتها من التداول في المكتبات .
والمتابع لأدب (الطيب ، الصالح) يعرف جيداً مدى قدرة الرجل وبراعته في استبصار المستقبل ، فقد تنبأ منذ سنوات طويلة بما صار فيما بعد. ففي رواية "بندر شاه" الجزء الأول "ضو البيت" ، كانت ثمة إشارة واضحة لهذا اليوم الذي انفجر فجأة في الثلاثين من يونيو ساعة أعتلى الاسلاميون السلطة، في حين غفلة من شعب مقهور.
لاحقا صالحته، السلطة. وكأن الطيب أدرك أن ساعة الفراق لعالم لا يستحق ثمن العيش فيه قد دنت، وأن عليه أن يمسح كل ما يعطله عن كتابة رواية أخرى عن: الموت، عن الغياب الصغير. فالطيب كان رجلا مؤمنا، تنضح شخصيته وكتاباته بهذا الشيء.. كان عالم دين ومتصوفاً وكان زاهداً في الحياة الدنيا، وكان له "دينه الخاص" ورؤيته المتوقدة للعالم . تلك الرؤية العرفانية التي لا يصل إليها إلا بعضٌ من خواص الناس، ممن لهم قرب من الله.
لكن بعض العلم لا يدركه العامة. وكأن الطيب صالح كان يقرر حياته بنفسه، ساعة قرر أن يتوقف عن كتابة الرواية مبكرا.. وهو يرى أن الكتابة في حد ذاتها مس من السحر الذي لابد منه لكي يتحرر الإنسان من قلق الوجود وسؤال الكينونة والبقاء.. أراد الطيب أن يتحرر عبر إيجاد حريته الخاصة التي لا تدانيها حرية ولا يقترب منها "هوس" ولا "استرجال فاحش"!!.
التقيت الفقيد الكبير في واحدة من زياراته لمواسم مهرجان أصيلة بالمملكة المغربية وأردتُ إجراء حوار صحفي معه لصحيفة "الزمان" اللندنية التي كنتُ أراسلها . قال لي ببشاشته المعهودة : يا زول كدي تعال أقعد أشرب ليك قهوة وللا عصير وخلينا نتونس ساي .. أي كلام عن رواياتي أنا قلته خلاص . كان معنا على نفس الطاولة في الفندق الفقيد الكبير الآخر أبو بكر الصديق الشريف والدكتور محمد ابراهيم الشوش . وبالفعل جلستُ وتونسنا ، لكنني وبمكرٍ ما استخلصتُ منه أجندة حواري الذي نشرته بعد ذلك من الذاكرة .
قال لنا حين سألته عن توقفه عن الكتابة "إن كتابة الأدب وعلى مرّ العصور لم تشفِ جراح الإنسانية ولم تنظف وجدان الناس ولا أوقفت حروبهم العبثية" ، وحين قلتُ له إن ذلك يعني أن الكتــّـاب الذين هم مشاعل الأمم التي تنير الكهوف يمتنعون عن وظيفتهم ويكتفون بالتفرج على زوال العالم.. قاطعني قائلاً : لا يا أخي .. أنا قلت اكثر من مرة إن الكتابة هي مسّ من السحر الضروري لتحرر الإنسان من قلق وجوده وسؤال بقائه ، ولكن ما الضير لو قام بهذا الدور كتــّـاب غيري ؟ أنا أفعل ما هو أهمّ من الكتابة : القراءة. واستدرك قائلاً : ومع ذلك لدي رواية أعكف على كتابتها اسمها "جبر الدار" ..
هذه الرواية ـ وهي الخامسة ضمن روايات الطيب ـ لم تصدر حتى الآن .. وكأن الموت هو الرواية الخامسة التي طوى بها العبقري الصحائف ، ومرّ كنسمةٍ لطيفةٍ في صباحٍ لندني بلا مشيعين .