بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة القدر
هذه سورة القدر، قال الله -جل وعلا- فيها إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ يعني: أنزلنا هذا القرآن، وإن لم يتقدم له ذكر، ولكن لكونه معلومًا منزل من عند الله -جل وعلا- أعاد الله -جل وعلا- عليه الضمير مع أنه لم يكن له سابق ذكر. وهذا من باب الاختصار بلغة العرب، والقرآن لسان عربي مبين، وأخبر جل وعلا أنه أنزل هذا القرآن في ليلة القدر، وليلة القدر هي ليلة يقدِّر الله -جل وعلا- فيها مقادير الخلائق مما يكون في العام؛ لأن التقادير أنواع، فمنها تقدير قدَّرَه الله -جل وعلا- قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قدَّر الله -جل وعلا- على العبد التقدير العمري؛ وذلك أنه إذا كان في بطن أمه، وتم له مائة وعشرون يومًا بعث الله -جل وعلا- الملك، فنفخ فيه الروح، ثم كتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، وهذا التقدير العمري لكل إنسان.
والمراد بالقدر هنا في لَيْلَةِ الْقَدْرِ المراد به التقدير السنوي؛ وذلك أن الله -جل وعلا- إذا كان في هذه الليلة فصل من اللوح المحفوظ الذي كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فصل ما فيه إلى صحف الملائكة، فنزلت به إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم ينزل بعد ذلك بحسب ما قدَّره الله -جل وعلا- في العام. فالقرآن منزل في ليلة القدر، وهذه الليلة في رمضان، كما دلت عليه آية البقرة، نزل القرآن في رمضان، ونزل في ليلة القدر، فهذا دليل على أن ليلة القدر في رمضان، وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسنة الصحيحة الثابتة المستفيضة أنها في العشر الأواخر من رمضان.
فجمع الله -جل وعلا- لهذا الكتاب العظيم ليلة عظيمة شريفة، وشهرًا عظيمًا كريمًا عند الله -جل وعلا- وإنما كان كذلك لشرف هذا القرآن؛ لأنه كلام الله -جل وعلا- الذي هو أحسن الكلام وأصدقه وخيره وأفضله، قال جل وعلا: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يعني: أن العبادة في ليلة القدر أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وهذا أمر قد يحسه بعض الناس، وقد لا يحسه آخرون، والعبد إذا تنزلت الملائكة بالسلام الذي يكون في تلك الليلة، قد تتنزل بمغفرة الذنوب، والنجاة من النار، ورفعة الدرجات، وكثرة الحسنات، وهذا كما قال -صلى الله عليه وسلم-: من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه وهذا من أعظم السلامة، أو من أكثر السلامة التي تتنزل في هذه الليلة.